الأحد، 27 ديسمبر 2015

المودة والرحمة


المرة الوحيدة التي جاء فيها ذكر الحب في القرآن
 هي قصة امرأة العزيز التي شغفها فتاها ( يوسف) حبّا 
فماذا فعلت امرأة العزيز حينما تعفف يوسف الصدّيق؟
و ماذا فعلت حينما دخل عليهما الزوج؟

لقد طالبت بإيداع يوسف السجن و تعذيبه
"قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "
(25) ( يوسف )

و ماذا قالت لصاحباتها و هي تروي قصة حبها؟
"وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ"(32) ( يوسف )
إن عنف حبها اقترن عندها بالقسوة و السجن و التعذيب.

و ماذا قال يوسف الصدّيق؟

"قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" (33) ( يوسف )






لأنه أدرك ببصيرته أن الحب سجن، و أن الشهوة قيد إذا استسلم له الرجل أطبق على عنقه حتى الموت.. و رأى أن مكثه في السجن عدة سنوات، أرحم من الخضوع للشهوة التي هي سجن مؤبد إلى آخر الحياة


إن الحب لا يظل حبا صافيا رفافا شفافا، و إنما ما يلبث بحكم الجبلة البشرية أن يصبح جزءا من ثالوث هو: الحب و الجنس و القسوة، و هو ثالوث متلاحم يقترن بعضه ببعض على الدوام

و لأن قصة الحب التي خالطتها الشهوة ما تلبث أن تنتهي إلى الإشباع في دقائق، ثم بعد ذلك يأتي التعب و الملل و الرغبة عند الإثنين في تغيير الطبق، و تجديد الصنف لإشعال الشهوة و الفضول من جديد.. لهذا ما يلبث أن يتداعى الحب إلى شك في كل طرف من غدر الطرف الآخر.. و هذا بدوره يؤدي إلى مزيد من الارتياب و التربص و القسوة و الغيرة، و هكذا يتحول الحب إلى تعاسة و آلام و دموع و تجريح

و الحب لا يكاد ينفك أبدا عن هذا الثالوث {الحب و الجنس و القسوة }

 و هو لهذا مقضى عليه بالإحباط و خيبة الأمل و محكوم عليه بالتقلب من الضد إلى الضد
و من النقيض إلى النقيض فيرتد الحب عداوة و ينقلب كراهية و تنتحر العواطف كل يوم مائة مرة
 وذلك هو عين العذاب و لهذا لا يصلح هذا الثالوث أن يكون أساسا لزواج و لا يصلح لبناء البيوت و لا يصلح لإقامة الوشائج الثابتة بين الجنسين



ومن دلائل عظمة القرآن و إعجازه أنه حينما ذكر الزواج، لم يذكر الحب و إنما ذكر المودة و الرحمة و السكن سكن النفوس بعضها إلى بعض و راحة النفوس بعضها إلى بعضو قيام الرحمة و ليس الحب و المودة و ليس الشهوة 

" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً "

( الروم – 21 )

إنها الرحمة و المودة.. مفتاح البيوت

و الرحمة تحتوي على الحب بالضرورة..


و الحب لا يشتمل على الرحمة، بل يكاد بالشهوة أن ينقلب عدوانا

و الرحمة أعمق من الحب و أصفى و أطهرو الرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة،

ففيها الحب، و فيها التضحية و فيها إنكار الذات و فيها التسامح و فيها العطف و فيها العفو و فيها الكرم



و كلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية و قليل منا هم القادرون على الرحمة

و بين ألف حبيبة هناك واحدة يمكن أن ترحم، و الباقي طالبات هوى و نشوة و لذة


و لذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية الذي تنزل علينا من الحق.. يذكرنا عند الزواج بالرحمة و المودة و السكن.. و لم يذكر كلمة واحدة عن الحب، محطما بذلك صنم العصر و معبوده الأول، كما حطم أصنام الكعبة من قديم

و الذين خبروا الحياة و باشروا حلوها و مرّها، و تمرسوا بالنساء يعرفون مدى عمق و أصالة و صدق هذه الكلمات المنزلة و ليس في هذه الكلمات مصادرة للحب أو إلغاء للشهوة و إنما هي توكيد و بيان بأن ممارسة الحب و الشهوة بدون إطار من الرحمة و المودة و الشرعية هو عبث لابد أن ينتهي إلى الإحباط


و الحيوانات تمارس الحب و الشهوة و تتبادل الغزل و إنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا الإطار من المودة و الرحمة و الرأفة، لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي على شهواته؛ فيصوم و هو جائع و يتعفف و هو مشتاق والرحمة ليست ضعفا و إنما هي غاية القوة، لأنها استعلاء على الحيوانية و البهيمية و الظلمة الشهوانية


الرحمة هي النور و الشهوة هي النار

و أهل الرحمة هم أهل النور و الصفاء و البهاء وهم الوجهاء حقا

و القسوة جبن و الرحمة شجاعة.

و لا يؤتى الرحمة إلا كل شجاع كريم نبيل.

و لا يشتغل بالانتقام و التنكيل إلا أهل الصغار و الخسة و الوضاعة

و الرحمة هي خاتم الجنة على جباه السعداء الموعودين من أهل الأرض.. تعرفهم بسيماهم و سمتهم و وضاءتهم



و علامة الرحيم هي الهدوء و السكينة و السماحة، و رحابة الصدر، و الحلم و الوداعة و الصبر و التريث، و مراجعة النفس قبل الاندفاع في ردود الأفعال، و عدم التهالك على الحظوظ العاجلة و المنافع الشخصية، و التنزه عن الغل و ضبط الشهوة، و طول التفكير و حب الصمت و الائتناس بالخلوة و عدم الوحشة من التوحد، لأن الرحيم له من داخله نور يؤنسه، و لأنه في حوار دائم مع الحق، و في بسطة دائمة مع الخلق

و الرحماء قليلون، و هم أركان الدنيا و أوتادها التي يحفظ بها الله الأرض و من عليها
و لا تقوم القيامة إلا حينما تنفد الرحمة من القلوب، و يتفشى الغلّ، و تسود المادية الغليظة، و تنفرد الشهوات بمصير الناس، فينهار بنيان الأرض و تتهدم هياكلها من القواعد

اللهم إني أسألك رحمة
اللهم إني أسألك مودة تدوم
اللهم إني أسألك سكنا عطوفا و قلبا طيبا
اللهم لا رحمة إلا بك و منك و إليك
د / مصطفى محمود
https://www.facebook.com/readpages

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق