الأحد، 5 أغسطس 2012

لا يفوت الأوان أبدا للبر بالأهل وتخفيف الحياة عنهم.. وصلة رحمهم..



أرجو أن تصبر علي قراءة رسالتي هذه حتي نهايتها.. فأنا أعلم أنها ستكون طويلة لأن ما أريد أن أرويه لك يحتاج إلي صفحات وصفحات.. فأنا رجل أقترب من الخمسين نشأت في أسرة كثيرة الأبناء لأب تاجر صغير لا يعرف من الحياة سوي بيته وتجارته التي يمضي فيها سحابة النهار ثم يرجع في العصر ليتناول غداءه ويستريح لمدة ساعة ويعود إلي محله.. ولأنني أكبر الأبناء فلقد كان يقع علي دائما عبء الحلول محل أبي في فترة الراحة.. أو كلما سافر إلي المدينة القريبة مرة كل شهر ليشتري بضائع تجارت
ه.. والحق أنني كنت أضيق أشد الضيق بهذا التكليف الذي يرغمني عليه أبي, وأتساءل دائما بعقلية الصبي الصغير لماذا يسجنني أبي في محله ساعتين كل يوم وبقية أخوتي أحرار يلعبون ويلهون؟!
ومضت الأيام والتحقت بالمدرسة الثانوية.. وبدأت أسمع همسا مزعجا في بيتنا حول مستقبلي, وتناثرت الأقوال إن أبي يريدني أن أترك الدراسة لأعاونه في المحل خاصة بعد أن ساءت صحته, ولكي أستعد من جهة أخري لتحمل المسئولية عن أخوتي الخمسة من بعده.. وانزعجت بشدة لما سمعت وحدثت فيه أمي, وقلت لها بصراحة إنني لا أري لنفسي أي مستقبل في العمل بالمحل, وأريد أن أنهي تعليمي الثانوي وألتحق بالجامعة في القاهرة وأعمل بها بعيدا عن المدينة الصغيرة التي نشأت فيها.. وخفت الهمس بعض الشيء لكني لم أفقد حذري وشكوكي أبدا.. وكان أول ما فعلت هو أن صممت علي أن أنجح بتفوق كل سنة لكيلا يكون لأبي حجة علي في التوقف عن التعليم, ونفذت ذلك بنجاح حتي حصلت علي الثانوية العامة بمجموع معقول.. وانفجرت المشكلة المؤجلة في حياتي ودوي الانفجار..

فلقد طالبني أبي بالتوقف عن التعليم وتحمل مسئوليتي عن مستقبل أخوتي.. ولأول مرة في حياتي أجابهه بالرفض الصريح لشيء يطلبه مني وأعلنه أنني سأواصل تعليمي الجامعي في القاهرة.. وجن جنون أبي وصفعني عدة مرات.. وأقسم أنني إن ركبت رأسي وصممت علي الذهاب إلي القاهرة فلن ينفق علي مليما واحدا ولن أكون ابنه ولن يكون أبي حتي نهاية العمر. واستمعت إلي وعيده صامتا وتصميمي علي تنفيذ ما أريد يزداد إصرارا وقاطعني أبي بعدها.. ومنع عني مصروفي القليل.. وأخفي ملابسي في مكان مجهول, فلم يعد لدي إلا ما كنت أرتديه عند الصدام وهو قميص متسخ وبنطلون بسيط.. وحرم علي أمي غسل ملابسي وعلي أخوتي أن يعطوني أي شيء.. وأمضيت أيام الصيف وأنا في كرب شديد إلي أن ظهرت نتيجة التنسيق الذي تقدمت إليه, وعرفت الكلية التي سأدرس بها بالقاهرة.. وجاء اليوم الذي لابد لي فيه من السفر إلي العاصمة وليس في جيبي قرش واحد, وليس علي جسدي سوي القميص الذي أغسله بنفسي وأنتظره والبنطلون الذي يكاد يستهلك, ورجوت أمي أن تعينني بأي مبلغ فأعطتني جنيهين وهي خائفة وحملت حقيبة صغيرة ليس فيها سوي فوطة وبيجامة وشبشب ومنديلين وجوربين, واستعددت لركوب القطار إلي القاهرة.. وعز علي أن أسافر دون وداع أبي.. فطرقت باب غرفة نومه وهو في فترة الراحة وقلت له إنني لا أريد أن أسافر وهو غاضب علي وكل ما أطلبه منه هو أن يسمح لي بتقبيل يده قبل السفر.. فلم يرد علي بكلمة واحدة وإنما أشاح بوجهه إلي الناحية الأخري ووضع يده وراء ظهره لكيلا أقبلها, ولم أجد ما أفعله بعد ذلك فانسحبت وأنا حزين ووصلت إلي القاهرة, وخرجت إلي ميدان رمسيس وتطلعت إلي طوفان البشر والسيارات والأتوبيسات الذي يتحرك فيه, وتساءلت ماذا سيكون من أمري فيك أيتها المدينة الكبيرة..

وبعد سؤال البعض ركبت سيارة أتوبيس متجها إلي حي قديم من أحياء القاهرة.. فلقد كانت لي خالة تقيم في هذا الحي مع زوجها وأبنائها, وقد أرشدتني أمي في اللحظة الأخيرة للذهاب إليها والاقامة عندها حتي أستطيع أن أجد لنفسي سكنا.
ورحبت بي خالتي وأولادها وزوجها برغم بساطة حالهم.. وأدركت من الظروف المحيطة بي أن أقصي ما يستطيعون تقديمه لي هو المأوي المحشور بين أجساد أولادهما ولمدة مؤقتة. ثم بدأت كفاحي المرير لإعالة نفسي وتحقيق طموحي في القاهرة, فالتحقت بالكلية وطفت معظم شوارع وسط المدينة بحثا عن لقمة العيش, ووجدت نفسي ذات يوم أمام مقهي يجلس فيه بعض الفنانين والمشاهير.. فرجوت صاحبه أن يسمح لي بالعمل فيه دون أجر علي أن يكون عملي هو قضاء المشاوير التي يطلبها رواد المقهي مقابل ما تجود به أيديهم من بقشيش, ونظر إلي صاحب المقهي طويلا وسألني عن ظروفي فصارحته بها كلها ابتداء من غضب أبي علي وقطع المصروف عني إلي الكلية التي التحقت بها إلي أحلامي في القاهرة. فطلب الاطلاع علي بطاقتي الشخصية.. وسجل بياناتها لديه وكتب عنوان خالتي ثم سمح لي بالعمل, وبدأت أول عمل أمارسه في القاهرة الكبيرة.. أشتري السجائر لهذا, وسندوتشات الفول والطعمية لذاك, وأحمل حقيبة أوراق الأستاذ فلان إلي سيارته.. وأفعل أي شيء وكل شيء, واستمررت في هذا العمل عامين استطعت خلالهما أن أشتري قميصا آخر عدا القميص الأزلي الذي جئت به من بلدتي.. ونجحت في امتحاناتي
وساهمت ببضعة جنيهات في ميزانية أسرة خالتي لكيلا تضيق بوجودي وتطردني..
وازدادت ثقة صاحب المقهي بي فأصبح يكلفني بشراء التموين للمقهي, ويطلب مني إعداد الحسابات.. ودفع الفواتير الخاصة بالعمل, وفي هذا المقهي أيضا تعرفت بالحاج حمزة واكتسبت مع العشرة ثقته وحبه.. وهو رجل متدين ويعمل مقاولا.. ويمضي سهرته بالمقهي كل مساء يدخن الشيشة ويستقبل العاملين معه ويحاسبهم.., وشيئا فشيئا بدأ يكلفني ببعض الخدمات كمتابعة مستخلصات مالية له في وزارات الأشغال أو الأوقاف أو التعليم وهكذا.. وينفحني نفحات سخية كلما أنهيت له مشكلة.

وتخرجت في الجامعة.. وعينت في وظيفة صغيرة وأصبح لي دخل ثابت ولو كان بسيطا لأول مرة منذ غضب علي أبي, واحتفلت بأول مرتب بأن اشتريت بنطلونا آخر, وبلوفر لمواجهة الشتاء, بعد أن عشت في القاهرة4 سنوات لا يستر جسدي في أمسيات الشتاء القارس سوي نفس القميص الأزلي..
واتصلت تليفونيا بأبي لأزف إليه خبر نجاحي.. فلم يرد علي السلام ولم ينطق بكلمة واحدة, وإنما أعطي السماعة لأحد أخوتي الصغار فأبلغته الخبر وطلبت منه ابلاغه لأمي, وأنهيت المكالمة وفي قلبي غصة أفسدت علي فرحتي. وعلي أية حال فلقد اعتبرت الوظيفة ساعات ضائعة من عمري أقضيها علي مضض في العمل كل يوم ثم أخرج للدنيا الواسعة التي سأحقق فيها أحلامي.., فأذهب إلي الحاج حمزة في الموقع الذي يعمل فيه وأقف إلي جانبه منتظرا أية اشارة لتلبيتها, ثم طلب مني الحاج أن أرافقه ساعات المساء كل يوم لأقوم له بأعمال السكرتارية ومتابعة العمل مقابل مرتب شهري ورحبت بذلك, وأصبحت سكرتيره وحامل حقيبته بل وسائقه الخاص أيضا كلما غاب سائقه, وطوال عملي معه لم أكف عن التطلع حولي ومحاولة فهم أسرار العمل.. واكتساب خبرته, إلي أن جاءتني الفرصة بعد عدة سنوات حين احتاج الحاج إلي مدير مقيم بموقع أحد مشروعاته تحت الإنشاء بعد ترك المدير السابق لعمله فجأة, وسألني الحاج عمن يصلح لأداء هذا العمل.. ففاجأته بقولي: أنا!

ورد مندهشا: أنت؟ قلت نعم, وسوف أسلمك المشروع قبل الموعد المحدد لانتهائه وإذا فشلت فلك الحق في أن تفصلني..
وفكر الرجل بعض الشيء.. ثم قال علي بركة الله..

وتسلمت المشروع وكان أول ما فعلته هو أن طلبت سريرا ووضعته في الغرفة الخشبية التي يدير فيها المدير العمل.., لكي أبيت في البيت الخشبي هذا وأبقي في الموقع24 ساعة كل يوم, وبدأت العمل بحماس رهيب.. ووجدني العمال والمهندسون بينهم طوال الليل والنهار.., وأصبح هذا البيت الخشبي هو أول سكن خاص لي منذ وطأت قدمي أرض القاهرة.. وبعد قليل أضفت إليه دورة مياه صغيرة, فأصبح بيتا ممتازا, ولست في حاجة لأن أقول لك إنني قد نجحت في مهمتي وسلمت المشروع قبل موعده.. وأسفت لاضطراري لمغادرة البيت الخشبي الذي سينقل إلي موقع آخر, ففزت بعد هذه العملية بعدة مشروعات بنفس الطريقة لحساب الحاج حمزة, وفي كل مرة أقيم في البيت الخشبي حتي انتهائه ثم أرجع للانحشار وسط أبناء خالتي التي انتظمت في دفع مبلغ شهري صغير لها..
ومن مشروع إلي مشروع.. ومن موقع بعيد إلي موقع أبعد منه.. تجمع لدي بضع عشرات من ألوف الجنيهات في البنك, بغير أن يتغير أي شيء في مظهري الخارجي أو حياتي.. فمازلت بالقميص والبنطلون والصندل ومازلت أعتمد في طعامي علي ساندوتشات الفول والطعمية, ومازلت لا أدخن ولا أرفه عن نفسي بأي شيء من أطايب الحياة.

وفكرت في أمري طويلا فوجدت أن سنوات الحرمان الطويلة التي قرصني فيها الجوع في أمسيات عديدة, وعدت فيها من العمل إلي بيت خالتي ماشيا علي الأقدام وأنا في قمة التعب لمدة ساعتين ونصف الساعة, والخوف المتأصل في نفسي من الغد.. كل ذلك قد أوجد في داخلي حرصا شديدا علي عدم إنفاق النقود إلا فيما يأتي بمزيد من النقود. إنني أعترف لك بذلك وسأعترف لك بما هو أكثر منه لأني عاهدت نفسي أن أكون صادقا فيما أرويه.
المهم أنني بعد أن اطمأننت إلي رصيدي طلبت من الحاج حمزة أن يعطيني مقاولة خاصة بي من الباطن.. ورحب الرجل, وبدأت أول عملية منفردا ونفذتها وحققت ربحا جيدا فيها..

فاستأذنت الحاج حمزة في أن أعمل مستقلا.. ولم يعترض الرجل الطيب بل شجعني علي ذلك, لكنه لفت نظري إلي أن المقاول لابد أن يكون مظهره موحيا بالثقة في امكاناته المادية, وإلا تخوف منه أصحاب الأعمال, وبالتالي فلابد لي من شراء سيارة وملابس وساعة ذهبية وإنفاق بعض المال علي مظهري العام.. واستوعبت الرسالة.. وانتزعت من مالي بصعوبة بالغة ما يكفي لتحسين مظهري في أضيق الحدود.
وبدأت العمل منفردا.. ونفذت عملية.. وثانية وثالثة ورابعة وخامسة ودارت العجلة بأقصي سرعتها, فوجدت نفسي بعد سنوات في عداد الأثرياء, وتوقفت لأتأمل الطريق الذي قطعته حتي وصلت إلي هذه النقطة.. فوجدت أنه قد مضت16 سنة علي اليوم الذي خرجت فيه إلي ميدان باب الحديد قادما من بلدتي وفي جيبي140 قرشا بعد قطع تذكرة بالدرجة الثالثة بالقطار.., وتذكرت أنني طوال هذه السنوات الست عشرة لم أنم يوما أكثر من خمس أو6 ساعات في اليوم.. وأنني كنت أبدأ يومي دائما في الخامسة صباحا مهما تأخر بي النوم.. كما انني وهو الأهم لم أر أمي إلا مرتين سافرت خلالهما إلي مدينتي, وتسللت إلي بيتنا ورأيت أمي واستمتعت بدفء مشاعرها بعض الوقت ورأيت أخوتي الصغار أو من كانوا صغارا, ثم أسرعت بالعودة قبل أن يرجع أبي للبيت وأصطدم به, وقررت أن أتوقف عن اللهاث بعض الوقت وأعيد ترتيب حياتي.. وكان أول ما فعلت هو أن أسست شركة لتأجير المعدات الثقيلة التي استخدمها في المقاولات.. ومكتبا تجاريا لممارسة بعض الأعمال التجارية التي تحقق ربحا كبيرا ولا تكلفني عشر المجهود الشاق الذي أبذله في المقاولات, وتزوجت من مهندسة كانت قد عملت معي في بعض عمل
ياتي واسترحت إليها واشترطت عليها التفرغ للبيت ولم يحضر فرحي من أسرتي سوي خالتي وزوجها وأبنائهما والحاج حمزة وبعض المتعاملين معي..
أما أبي وهنا المأساة التي دفعتني للكتابة إليك فلقد رحل عن الحياة, وهو غاضب علي قبل زواجي بعام, ودون أن أسعي إلي مصالحته أو طلب رضائه.. وعدت إلي بلدتي وحضرت العزاء فيه وأنفقت علي السرادق والشيوخ الذين أحيوا سهرة العزاء.. وأنا جامد المشاعر.. لا أعرف هل أنا حزين لوفاته أم لأنه مات قبل أن يصفح عني, أم لأنه لم يعرف كل الحقائق عن نجاحي المادي بعيدا عنه!

لقد تسربت الأنباء إليه بغير شك.. ولابد أنه عرف أنني قد أصبحت ثريا وأركب سيارة مرسيدس وأسكن في شقة فاخرة, لكني لم أر تأثير ذلك عليه بنفسي, ولم أعرف هل اعترف بنجاحي أم ظل مصرا علي أنني ابن عاق وخائب ولن أري خيرا أبدا في حياتي؟!
تسألني ولماذا لم تحاول مرارا وتكرارا أن تطلب صفح أبيك عنك كما تطلب دائما من الأبناء, ولماذا لم تغدق علي أخوتك ووالدتك بالعطاء فيشعر أبوك بنجاحك وبأنك قد خيبت ظنه فيك, فيراجع موقفه منك ويغير رأيه فيك؟! وأجيبك بصراحة لأن قسوة السنين التي عشتها منبوذا وطريدا من رحمة أبي في القاهرة والتي عرفت فيها الجوع والعري ومذلة الحاجة واستجداء عطف الآخرين لكي أعيش, كل ذلك قد وضع علي قلبي حجرا بالنسبة لأبي, بل وبالنسبة لكل أسرتي التي تخلت عني ولم تحاول أن تدفع عني الجوع والعري في سنوات العذاب. لكني بالرغم من ذلك أتساءل الآن, ماذا لو كنت قد واصلت السفر إلي بلدتي كل شهرين أو ثلاثة ووقفت أمام أبي متوسلا وراجيا, ألم يكن سيلين بعد عدة مرات ويصفح عني ويمنحني مباركته؟

ثم إنني كنت أعرف أن تجارة أبي متعثرة وأنها تكاد تفي بصعوبة باحتياجات الأسرة, فماذا لو كنت قد وضعت بين يديه مثلا ثلاثين أو أربعين ألف جنيه وطلبت منه أن يدعم بها تجارته وأن يعتبرني شريكا رمزيا بهذا المبلغ.. ألم يكن ذلك ليرضيه ويعينه علي الصفح عني بل والافتخار بي؟!.
لكني لم أفعل ذلك برغم أن هذا المبلغ لم يكن ليمثل لي شيئا ولم أقدم لأبي ولا أخوتي في الحقيقة شيئا.. وكل ما فعلت طوال هذه السنوات هو أنني أرسلت هدية ذهبية بسيطة لأمي في عيد الأم مرتين وأنا الآن نادم بشدة علي كل ذلك.. نادم علي أنني لم أعن أبي علي أمره ولم أساعده علي الصفح عني.. ونادم علي أنني لم أعن أخوتي الصغار علي أمرهم ورضيت لهم جميعا حياة جافة بسيطة من تخرج منهم وعمل ومن لم يتخرج.

وقبل أن تسألني عما حدث في حياتي وحرك هذه المشاعر فجأة في داخلي أقول لك إنني وأنا في قمة نجاحي المادي والعملي والاجتماعي.. وبعد أن هدأ اللهاث وأصبحت أملك أوقاتي.. وأتسلي من حين لآخر بحساب أملاكي وملاييني, شكوت فجأة من صداع شديد لم تفلح فيه كل المسكنات فاستدعيت الطبيب فكانت هذه هي البداية لما تلاها من فحوص وأشعات وسفر إلي الخارج.. وعودة إلي مصر.. وجراحة أولي دقيقة خطيرة.. وشلل خفيف في الجانب الأيسر مع ثقل خفيف في اللسان..
ثم جراحة ثانية بعد عدة شهور ثم عشرات القيود الصحية.. علي الحركة والمجهود والطعام والشراب وكل شيء, فيما يشبه العودة إلي سنوات الحرمان من كل متع الحياة التي خبرتها وخبرتني, لقد أنجبت خلال رحلة العمر ولدا وبنتا لم يصلا بعد إلي سن الشباب والآن فإنني أستعد لاجراء الجراحة الثالثة والأخيرة لإنقاذ حياتي.. فإما أن تنجح وأنجو مما يترصدني من أخطار.. وإما أن تفشل ويحم قضاء الله دون أن أجد الوقت والفسحة للتمتع بما شقيت معظم سنوات عمري لأصل إليه, ودون أن أجد الفرصة أيضا لتعويض ما فاتني من البر بإخوتي وأمي وأهلي, الذين باعدوني في سنوات الحرمان.. وباعدتهم أنا في سنوات الثراء واللمعان..

لقد آثرت أن أروي لك كل شيء بصدق ولم أحاول أن أتجمل أو أزيف صورتي.. وقلت لك بصراحة إنني نادم لأن الوقت قد فات لإصلاح خطئي في حق أمي وأخوتي الذين يعيشون حياة صعبة خاصة بعد موت أبي, حيث تفرغ الابن الذي يليني للعمل في تجارة أبي المثقلة بديون الضرائب.. ولا يكاد ريع المحل يحفظ عليهم مظهرهم كأسرة شبه مستورة فبماذا تشير علي؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

لا يفوت الأوان أبدا للبر بالأهل وتخفيف الحياة عنهم.. وصلة رحمهم.. فإذا كنت نادما علي أنك لم تبذل الجهد الكافي لاسترضاء أبيك ونيل صفحه عنك قبل رحيله عن الحياة.. وإذا كنت تشعر ببعض الذنب تجاهه لأنك حين ملكت المال الوفير لم تفكر في إعانته علي أمره ببعض مالك, فإن الفرصة لم تضع بعد لتعويض كل ذلك.. بل لعلها الآن متاحة أمامك بأوسع مما كانت في أي وقت مضي. فشقيقك الذي تحمل مسئولية أخوته دونك ويواجه الحياة بتجارة صغيرة متعسرة يستحق منك أن تشد أزره وتحيي تجارته ببعض مالك فتعينه علي أمره وتحفظ كرامة أسرتك واسم أبيك, واسمك وكرامتك أنت أيضا, لأن كل ما يمس وضع اخوتك وأسرتك إنما يمس وضعك وكرامتك بنفس القدر, ولأن تكون ابنا أكبر لأسرة كريمة مستورة أفضل كثيرا من أن تكون ابنا لأسرة يلاطم كل أفرادها الحياة. ما عدا الابن الأكبر الشارد بعيدا عن أسرته وحده!
أما والدتك التي زرتها مرتين فقط خلال16 عاما, ورضيت لها علي البعد بمكابدة جفاف الحياة في وجود أبيك ومن بعد غيابه وأنت القادر علي تيسير الحياة عليها.. هذه الأم المكافحة ماذا يمنعك الآن وبعد أن زالت كل الحواجز من أن ترعاها وتغدق عليها وتزورها وتستزيرها في شقتك الفاخرة لتري ماذا حقق ابنها الذي تنبأ له البعض بالفشل, وتستعيد صلة الابن بأمه فتتصل بها كل حين وتزورها كلما سمحت الظروف وتطرفها ببعض الطرائف والهدايا كل حين استرضاء لنفسها ومحوا لسابق تقصيرك الطويل معها.

بل وماذا يمنعك أيضا من أن تقرب إليك اخوتك وتكون أبا لهم من بعد أبيهم وترعي أحلامهم الصغيرة وتحقق لهم مطالبهم البسيطة, فتصبح بذلك فخرهم العائلي.. ونجم الأسرة الذين يتباهون به في ساعة الفخر والاعتزاز.
انك تتصور أن مالك سوف ينقص من جراء ذلك.. وقد تتحرك قرون استشعارك القديمة التي كانت تنفر من الانفاق فيما لا طائل تحته تأثرا بسنوات الحرمان القاسية, لكن ثق من أن هذا الانفاق بالذات لا ينقص المال وإنما يزيده ويربيه ويطهره تطهيرا.. ألم تقرأ في الحديث أنه ما نقص مال من صدقة؟..

لقد آن الأوان لأن تؤدي حق الله سبحانه وتعالي في مالك, وأن تطهره بالزكاة.. ومن حصيلة هذه الزكاة المفروضة والتي لاتملكها أنت وإنما هي مال الله وضريبته العادلة, تستطيع أن تصلح أحوال أخوتك جميعا ما عدا والدتك التي لا تجوز عليها زكاتك لأنك تتحمل كامل المسئولية عن إعالتها إذا كانت محتاجة, وتكريمها إن لم تكن قد فعلت ومن صلب مالك وليس من زكاته. في حين يجوز أن تصلح أحوال الاخوة الذين لا يكفيهم نصابهم من هذه الزكاة المطهرة.
انك إن تفعل ذلك إنما تجعل لحياتك قيمة جوهرية وأساسية لدي اخوتك فيحرصون عليها حرصهم علي أنفسهم ويبتهلون إلي الله سبحانه وتعالي أن يحفظ عليك حياتك لتظل دائما الشجرة الوارفة التي يستظلون بها.

ولقد قلت مرارا إن الإنسان يحتاج إلي أن يحتاج إليه بعض البشر, وأن حياته تقوم وتقدر بعدد الذين يعتمدون عليه في حياتهم وعدد الذين يستظلون بظله ويعيشون في حماه. كما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في المنفي إلي الأبد.. والبعد عن الأهل وقطع الجذور نفي أبدي للإنسان لايطيقه أصحاب القلوب الحكيمة.. لهذا يؤب الغائب دوما بعد طول الإبحار في البحار البعيدة إلي مرفئه القديم في النهاية, ويرجع إلي الجذور والأصول ليجد نفسه.. ويجد من يسعدون به وينتمون إليه..
وكذلك ينبغي لك أن تفعل.. وأن تعتبر رحلة التحدي التي بدأتها شابا صغيرا قد انتهت منذ زمن طويل وغابت رموز هذه المرحلة عن الحياة, ولابد من العودة إلي الحياة الطبيعية التي يحياها كل البشر.. بلا تحديات مع المجهول ولا محاولة أبدية لإثبات شيء ما.. ولا مشاعر عدائية تجاه أحد.. فافعل كل ذلك.. وداو أمراضك وأوجاعك بصلة رحم اخوتك وأهلك والبر بهم.. وثق من احساسك بالذنب تجاه أبيك وسوف يتراجع كثيرا حين تفعل ذلك. وفي التنزيل الحكيم:

واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل, ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكري للذاكرين


114 هود 



صدق الله العظيم








عبد الوهاب مطاوع